n_elmasmoudi@hotmail.fr
رهان تحقيق دولة الحق والقانون في المغرب
شكلت نهاية الثمانينيات بداية عهد جديد في الأدبيات السياسية على المستوى الدولي، وهمت بالخصوص موضوعا على قدر كبير من الأهمية وهو موضوع احترام حقوق الإنسان والمواطن وسيادة القانون، بل إن هذا الموضوع أصبح موضوعا محددا للعلائق الخارجية والدولية، خاصة في علائق الدولة النامية بالفاعلين الإقتصاديين الدوليين (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي)، وأيضا للعلائق الداخلية التي تهم شكل وطبيعة وممارسة السلطة السياسية داخل مختلف الدول [1].
بين دولة الحق ودولة القانون مسافة حقوقية تطرح أكثر من إشكال بين حقوق الدولة كفاعل سياسي وإطار للعيش المشترك، وحقوق المجتمع الذي قد يجد نفسه في وضعية قهر وتبعية في حالة التمادي والغلو في الطابع الشكلاني لدولة القانون الأمر الذي يفرض مع ذلك الجمع المتوازن بين البعدين القانوني والحقوقي في وظائف الدولة القانونية [2].
فدولة القانون حسب الأستاذ الفرنسي دوني توريDenis Touret : "نكون بصدد دولة القانون عندما تكون الدولة خاضعة في تصرفاتها إلى قواعد قانونية داخلية لها قيمة دستورية، قواعد مقبولة باعتبارها أسمى من قواعد قانونية أخرى داخلية مندرجة في الترتيب والتي هي بدورها مرتبطة بقواعد لها قيمة فوق وطنية" [3].
أما دولة الحق والقانون، فمفهومها أكثر قوة ودلالة من دولة القانون، لأنه يحيل إلى مسألة في غاية الأهمية، وهو البعد الغائي من تطبيق القانون، أي البحث في طبيعة القوانين المطبقة والحقوق الفعلية المعترف بها على المستويين الفردي والجماعي، ذلك أن القانون في هذا المستوى يلزم أن يصبح في حقيقته وسيلة لإقرار غاية الحقوق وليس التضييق عليها [4].
«فالأصل في القانون والمساطر، هو ضبط مجال الحقوق في المجمل وليس تقييدها، وفي دولة الحقوق والحريات يكون وضع أو تأويل المساطر والقوانين لصالح تيسير التمتع بالحقوق وليس لصالح تعسيرها، وعلى هذا، تتأسس دولة الحق والقانون باعتبارها مبنية في الأصل على الحق في التعبير والتنظيم والعيش الكريم والكرامة الإنسانية وحرية الإجتماع والإختيار الحر والمعارضة، ويأتي القانون تبعا لهذا الأصل ضابطا له وميسرا لوجوده، فالقانون يأتي اقتضاء لهذا الحق لا ابتداء، هذا هو عمق دولة الحق والقانون، وعليه فإذا كان القانون يأتي اقتضاء لا ابتداء، فإن أولوية الحقوق الأساسية للمجتمع تصبح الفاعلة في مجال رعاية ودور دولة القانون، وبالشكل الذي يدعوا إلى ضرورة التمتع بها وتجسيدها بواسطة القوانين والمساطير، ويمكن إجمال الحقوق الأساسية للمجتمع في الأتي:
1. حق المجتمع في تقرير نوع ومضمون تعاقده مع من يحكمه ويسير شأنه؛
2. حق المجتمع في تقرير الإختيارات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية للدولة، عبر مؤسسات تمثيلية ومسؤولة وشفافة ومشكلة بنزاهة؛
3. حق المجتمع في اختيار من يسير شأنه العام؛
4. حق المجتمع في تقوية ومراقبة ومحاسبة من يسير شأنه العام؛
5. حق المجتمع في تنظيم نفسه ضد كل إرادة التعسف والشطط السلطوي والإستبداد؛
6. حق المجتمع في صون الكرامة الإنسانية لكل أفراده بمختلف تجلياتها الإقتصادية والثقافية والإجتماعية من شغل كريم، وقدرة شرائية توفر الكفاف وتطبيب مجاني وتعليم مجاني وسكن لائق... الخ؛
7. حق المجتمع في صون الكرامة الإجتماعية ومنازل ومساكن أفراده؛
8. حق المجتمع في صون الملكية الفردية والمنافسة الإقتصادية الشريفة والحرة والشفافة والمسؤولة لكل أفراه، بما لا يضر مصلحة المجتمع بكل فئاته.
إن دولة الحق والقانون "ليست فقط الدولة التي تتوفر على دستور وعلى حكومة وعلى برلمان وجهاز قضائي، وليست فقط التي تتوفر على ترسانة هائلة من القوانين وليست فقط هي التي تدار فيها الإنتخابات، إن دولة الحق والقانون هي مضامين قبل كل هذا، ومضامينها كلها ينبغي أن تكون منسجمة مع مبرر وجودها الذي هو ضمان حقوق المجتمع وفئاته وأفراده وجماعاته، حتى تكون بحق دولة المجتمع المعبرة عن نبضه وإرادته واختياراته". فدولة القانون، التي ينبغي أن تكون منار طموح المجتمع هي الدولة الضامنة لهذه الحقوق، العاملة على إصدار القوانين بما يضمن سريان هذه الحقوق و التمكن من ممارستها بالفعل.
لقد أصبح التأكيد على مبدأ دولة الحق والقانون مطلبا عاما وعالميا في الوقت الراهن سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، وهو مبدأ يقتضي القيام بمجموعة خطوات أهمها وضع دستور يضمن الحرية والمساواة والعدالة لكل المواطنين خصوصا الحريات الأساسية، من حرية الرأي والتعبير والتجول والإنتماء السياسي وتأسيس الجمعيات والإنخراط في الأحزاب والنقابات وغيرها، وأيضا ممارسة الحقوق والتمتع بالأهلية... الخ، ويقتضي ذات المبدأ سن قوانين تحدد إطار ممارسة تلك الحقوق وأداء الواجبات، وضمان فصل تام للسلط وتحديد مجال عمل كل سلطة على حدة مع استقلال حقيقي للسلطة القضائية» [5].
لا شك أن إرساء دعائم دولة الحق والقانون يستلزم توفير الآليات الكفيلة بتحقيق العدالة والمساواة واحترام الحقوق والحريات، ومن بين الآليات المطروحة في هذا السياق الآليات القانونية التي تنظم العلاقات الإجتماعية بين الأفراد من جهة، وبين الأفراد والمؤسسات من جهة أخرى [6].
كما أن إصلاح المنظومة القضائية يعتبر من أهم دعائم دولة الحق والقانون، باعتبارها صمام الأمان لأي تقدم و تنمية شاملة واستقرار.
هناك خمسة عناصر إرشادية بالإمكان استحضارها في كل توجه لحكامة القضاء وهي الإستقلالية والشمولية والشفافية والفعالية والنجاعة، وهذه العناصر تسعف في جعل مقاربة إصلاح القضاء مقاربة حكماتية ذات بعد شمولي ومجتمعي إستراتيجي ولا تهم فقط جانبا أو مؤسسة معينة كيفما كان موقعها، بل تجعل الإصلاح في هذا المجال الحيوي شأنا اجتماعيا يخدم مبادئ العدالة ودولة الحق والقانون [7].
ووعيا من المغرب بأهمية المؤسسة القضائية باعتبارها من الأسس الجوهرية لدولة الحق والقانون، لأن القضاء هو الساهر على احترام حقوق وحريات المواطنين إذ أن وجود النصوص القانونية التي تخول للمواطنين حقوقا أو ترتب عليهم التزامات إذا لم يتم تطبيقها أو تم تحريف تطبيقها قد تمس بمبدأ المشروعية، ومن ثم فوجود الهيئة القضائية ومسألة استقلاها ضرورية في إطار دولة تسير في نهج دولة الحق والقانون وعلى هذا المنوال سار المشرع المغربي فنص على مبدأ استقلال القضاء بالمغرب وتجلى ذلك في عدة مظاهر منها:
1. التنصيص في الدستور على مبدأ استقلال القضاء؛
2. عدم تبعية القاضي للسلطة التنفيذية، فيما يخص الأجرة والنقل والترقية والجزاء والمراقبة؛
3. القاضي يطبق التشريع ولا ينشئه؛
4. مراعاة الوضعية المادية للقاضي بتحسينا، والتصريح بممتلكاته وممتلكات زوجته، وكلما تغيرت وضعيته الإقتصاية؛
5. الحياد السياسي للقاضي وعدم إنتمائه السياسي؛
6. الصبغة التنفيذية للأحكام، وذلك باحترام جدارتها ونفاذها وعدم الإعتراض على نفاذها؛
فمن الأكيد أن قضاء عصريا ومتخصصا بالمفهوم الحديث لم يفرق المغرب ولادته الأولى إلا بعد الإستقلال وإن كانت بوادره لاحت في أفق سنة 1913م عند إنشاء أول محكمة استئناف بالرباط على الصعيد الوطني.
والحقيقة أن التاريخ القضائي في فترة الحماية باستثناء - القضاء الشرعي- كان حاكما ولم يكن لمفهوم فصل السلط وجود على المستوى القضائي، بل إن قضاء الإستئناف الشرعي الأعلى كان بدونه لاسيما منذ بداية تطبيقه سنة 1914 إلى 1921 كان يرأسه وزير العدلية.
ويعتبر يوم 23 أكتوبر 1957 يوما مشهودا، يؤرخ لحدث بارز الأهمية في صرح العدالة المغربية وتجسيد السيادة المغربية، إذ ترأس المغفور له الملك محمد الخامس افتتاح المجلس الأعلى إثر إحداثه بمقتضى الظهير الشريف المؤرخ في ثاني ربيع الأول 1377 (27 شتنبر 1957). كما ألقى بالمناسبة خطابا أكد فيه على ضرورة العناية بإصلاح النظام القضائي المغربي وتمتيع القضاء باستقلال تام تأكيدا لمبدأ فصل السلط وتوحيده بمجموع التراب الوطني، حيث ورد فيه: «إن برنامج الإصلاح القضائي الذي حددنا خطوطه الرئيسية... ليرمي بادئ ذي بدء إلى تحقيق هدفين إثنين هما فصل السلط واستقلال القضاء وتوحيده».
وهكذا تضمن القانون المحدث للمجلس الأعلى قواعد عامة للمرافعة لديه، وشمل نفوذه جميع المحاكم على اختلاف أنواعها.
وتوالت الجهود المبذولة بصدور قانون 22 رمضان 1384 (26 يناير 1965) القاضي بتوحيد المحاكم ومغربتها وتعريبها وتوحيد التشريع المطبق بها، ويعد هذا القانون بحق الجوهرة الكبرى في منظومة الإصلاحات القضائية.
وفي غضون سنة 1974 كانت المحطة الثالثة، حيث صدر الظهير الشريف المؤرخ في 24 جمادى الثاني 1394- (15 يوليوز 1974)، حسب ما وقع تعديله المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، ومرسومه التطبيقي المؤرخ في 16 يوليوز 1974، علاوة على قانون المسطرة المدنية وقانون الإجراءات الإنتقالية لقانون المسطرة الجنائية [9].
والحقيقة أن تقرير الخمسينية التي تضمنه كتاب المغرب الممكن أشار إلى أن:«إصلاح سنة 1974 قد أضر بالضمانات المخولة للمتقاضين ومس بالحق في محاكمة عادلة على المستوى الجنائي، كما أن نقص مستوى كفاءة بعض القضاة والمحامين وكتاب الضبط وتدني وضعيتهم المادية كان من أهم مواطن القصور التي أضرت باستقلالية القضاء» [10].
ويعتبر إحداث محاكم متخصصة في المجال الإداري والتجاري والمالي وأقسام الأسرة علاوة على تحسين قوانين الشركات ومدونات التجارة والتأمين والأسرة والشغل والمسطرة الجنائية وغيرها محطة رابعة في المجال القضائي وما واكب ذلك من تدابير محدودة لتأهيل وتخليق شؤون العدالة وتنميتها [11].
كما تعتبر الوثيقة الدستورية المستفتى بشأنها بتاريخ فاتح يوليوز 2011 (البابين السابع والثامن، الفصول: من107 إلى134)، بمثابة الولادة الجديدة والتاريخية للسلطة القضائية المغربية، ذلك أن المغرب بعد أن عمل جاهدا من أجل تطوير القضاء ليضطلع بالمهام المنوطة به وفق الرؤية المعبر عنها سواء من قبل الملك محمد السادس أو من قبل جميع الجهات الأخرى التي عنيت بالسلطة القضائية وضرورة تطويرها، من هيئات ومنظمات حقوقية وفعاليات المجتمع المدني وكذا من طرف بعض الأفراد الغيورين على استقلال السلطة القضائية ولا ننسى في هذا الصدد المجهودات الجبارة التي تم القيام بها من أجل تعزيز مكانة القضاء المجتمعي وبناء دولة الحق والقانون [12].
الهوامش:
[1]- د. سعيد جعفري، الحكامة وأخواتها، مقاربة في المفهوم ورهان الطموح المغربي، نفس المرجع السابق، ص. 50.
[3]- د. مصطفى القاسمي، دولة القانون في المغرب التطورات والحصيلة ،ط. 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2004. ، ص. 5.
[6]- د. عبد الواحد القريشي، القضاء الإداري ودولة الحق والقانون بالمغرب، ط. 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2009، ص. 226.
[9]- إدريس بلمحجوب، مستلزمات تأهيل العدالة وتقوية استقلالها، دستور 2011 بالمغرب: مقاربات متعددة، مساهمة في الكشف عن جديد الوثيقة الدستورية وتفعيل التنزيل السليم لمقتضياتها، منشورات مجلة الحقوق، سلسلة الأعداد الخاصة العدد 5 ماي 2012، مطبعة دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ص. 32- 33.
[10]- المملكة المغربية، المغرب الممكن، المغرب الممكن، إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك، تقرير الخمسينية، ط.1، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2006، ص. 85.
[12]- توفيق بوخروف، استقلالية السلطة القضائية في التجربة المغربية، (دراسة) ضمن الحكامة الجيدة بالمغرب، سلسلة اللامركزية والإدارة الترابية، رقم 20، ط. 1، مطبعة طوب بريس، الرباط، 2013، ص. 175.
إرسال تعليق