نجيب المصمودي
باحث وفاعل في مجال المجتمع المدني
متخصص في تدبير الشأن العام المحلي
n_elmasmoudi@hotmail.fr
تعرف الإنسانية ويلات متعددة، وانتكاسات متزايدة... بسبب النزوح المستمر عن المثل و القيم الأخلاقية، والأسس التربوية، والمبادئ التضامنية والحقوقية والديمقراطية...
وذلك راجع بالأساس إلى بعض الانحرافات في التفكير والسلوك الإنسانيين، التي تعرفها المجتمعات الحديثة على نطاق واسع سواء كان ذلك عن قصد أو عن تغرير... إضافة إلى التحولات والتغيرات المتسارعة المرافقة للتطور الإقتصادي والإجتماعي والعمراني والتكنولوجي...
هدف تأهيل العنصر البشري من طرف منظمات المجتمع المدني تفرضه التحولات والتغيرات التي تعرفها مختلف المجتمعات، كما أن إبراز مفهوم تأهيل العنصر البشري يبين بوضوح على أن الوضعية التأهيلية للعنصر البشري توجد في حالة من الإضطراب وعدم الإنسجام مع التحولات المتجددة باستمرار لكل مناح الحياة الإنسانية.
فالأقطار العربية، ومنها المغرب، تعرف منذ أكثر من ثلاث عقود من الزمن عدة تحولات ديموغرافية وعمرانية، تتمثل أساسا في الإنتقال الديموغرافي والتوسع الحضري، والتمدين الكثيف جراء حركية السكان وهجراتهم إلى جانب الإنفتاح على المستوى الإقتصادي والثقافي (1)، كما أن التحولات التي طرأت على المجتمع والأسرة، حيث بات التوجه نحو الإهتمام أكثر بالمصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، وطغيان الأنانية الفردية، والأسرة النووية الصغيرة على حساب الأسرة الكبيرة الممتدة والمتضامنة، والتفكك الأسري، ومساواة الرجل بالمرأة، ناهيك عما يجري في البوادي من تحولات وانقلاب، وما يعرفه المجتمع من استفحال لمظاهر الفساد السياسي والإداري، وانتشار الإنحراف والتخلف والفقر والإقصاء والتهميش...(2)
وتخلي الدولة عن جزء كبير من وظائفها بفعل فشل النماذج التدبيرية والتنموية التي كانت تنهجها، وبفعل الضغوط القادمة من المؤسسات المالية الدولية نتيجة الأثر الذي خلفته الأزمة الإقتصادية طيلة الثلاث عقود الأخيرة مما أدى إلى خفض الإنفاق العام على الخدمات الإجتماعية، في وقت كانت فيه تحولات ديموغرافية وحضرية تفرض احتياجات جديدة(3).
فقد رافقت هذه التحولات والإختلالات الإحتقان الإجتماعي المستمر، وارتفاع سقف الإحتجاج والمطالب السياسية والإجتماعية، وما لهذه الإختلالات من تأثير على قيم المواطنة وما يرتبط بها من فقد للثقة في المؤسسات السياسية والإجتماعية بشكل عام، في واقع يعج بالعديد من التحديات نذكر منها : تعزيز التماسك الإجتماعي عن طريق إدماج الفئات المحرومة والمهمشة، في الوقت الذي ينبغي التمسك فيه بحرية المبادرة ومكافأة الإنتاج وضمان تكافؤ الفرص بين الجمع (4).
لا يوجد شك في الدور المهم والأساس الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني بكل أطيافه، في مختلف مجالات تواجده: عالميا أو محليا، في الدول المتقدمة أو السائرة في طريق النمو، في تأهيل العنصر البشري وتربيته على المبادئ والقيم والمثل العليا، والمساهمة في التطورات الحاصلة بغية الدفع بالعملية التنموية وترسيخ المكتسبات الحقوقية وتحقيق التوازن بين كافة المكونات والمؤسسات، نتيجة المستجدات التي يشهدها المجتمع بصفة مطردة (5)... لكن " ثمة بعض الشكوك حول مدى أحقية كثير من المؤسسات والمنظمات المدنية في الإدعاء بأنها تتكلم باسم المجتمع المدني" (6) والإنتماء إليه، فكثير من مؤسسات المجتمع المدني و " منظمات الشباب يقتصر نشاطها على البرامج الترفيهية، متناسية رسالتها الأساسية نحو تكوين أجيال من المواطنين الصالحين القادرين على العمل من أجل الارتفاع بمستواهم الشخصي، ومستوى الوطن [تربويا] وثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا، إلى جانب الممارسة السياسية، وكثير أيضا من مؤسسات الإعلام الجماهيري أصبحت أكثر ميلا إلى تقديم البرامج والمعلومات السطحية الهزيلة، التي تداعب المشاعر والعواطف والغرائز، بدلا من تقديم برامج جادة تثير الفكر، وتعرض بالتحليل المشكلات الحياتية الكبرى على المستوى الفردي أو القومي أو العالمي (...) منحرفة عن المثل العلمية والثقافية العليا التي أنشئت من أجلها..." (7) وكثير من المنظمات كذلك أنشئت من أجل تحقيق مصالح فردية محضة، أو الجري وراء أجندات سياسية خاصة، مساهمة بذلك في استمرار وتكريس ثقافة الوصولية والإتكالية والسمسرة والرشوة والزعامات الخالدة...
دون أن ننسى المنظمات الهدامة والعنصرية والعصبية والمحتضنة للميوعة والإنحلال الأخلاقي...
فكل هذه الأشكال ومثيلاتها من المنظمات المدنية تساهم في إنتاج شباب منحلا خلقيا، مائعا سلوكيا، عابثا حياتيا... لا يحمل على عاتقه هموم الأمة، و لا يفكر في ازدهار وتقدم وطنه... و لا يحترم مقدساته: من دين، ووطنية وهوية، وحضارة...
لكن يمكن أن نعتبر ذلك من الإستثناء والشاذ، والقول بأن في إطار الرقابة الذاتية العليا، والتحولات الإجتماعية والثقافية المستمرة، فالمجتمع يستطيع أن ينتج منظمات للمجتمع المدني في مستوى تطلعاته، تهدف إلى تبني والدفاع عن القيم والمثل الأخلاقية والتربية، والقيم والمبادئ التضامنية والحقوقية والديمقراطية... كما أنه ليس من الغريب أن يتم اللجوء، في عالم ما فتئ يتغير، إلى وضع قواعد أساسية مشتركة وشاملة من القيم والمبادئ الرامية إلى ضمان الحماية الإجتماعية للجميع يكون فيه للمجتمع المدني دور أساسي بهدف إرساء الروابط الإجتماعية المتينة والمتضامنة باعتبارها الإستثمار الأولي لضمان الإنتاجية وتحسين عيش الفئات المحرومة، وتوزيع الثروة بكثير من العدل والإنصاف وكذا صوب دول الجنوب الفقيرة والسائرة في طريق النمو (8).
وإشكالية المجتمع المدني وتميزه، وتعريفه، ودوره، وعلاقته بمؤسسات المجتمع الأخرى طرحت ونوقشت عبر العصور، خصوصا ابتداء من الفكر اليوناني والفكر الروماني، ومرورا بفكر النهضة والثورة الفرنسية، والإنجليزية والأمريكية... ووصولا إلى الفكر المعاصر العالمي، سواء الفكر الغربي المعولم أو الفكر العربي أو غيرهما...
أما " دور المجتمع المدني في تأهيل العنصر البشري" كموضوع مستقل رغم وجود أبحاث متفرقة عبر مقالات، وأفكار متناثرة عبر مؤلفات، تناقش أفكار هذا الموضوع حسب علمي المتواضع، لايزال في التبلور والتطور، وأرجع ذلك لسببين جوهريين:
السبب الأول: اعتبار موضوع المجتمع المدني، رغم قدمه، موضوع جديد النقاش فيه، خصوصا في الفكر العربي والعالم الثالث، وذلك راجع إلى الفترات التي عرفت الفتور أو التغاضي عن التفكير والبحث حوله.
السبب الثاني: ارتباط ازدهار ظاهرة المجتمع المدني بظاهرتي العولمة، وسقوط القطبية الثنائية، وما رافقهما من "إعادة الاعتبار" لمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، والاهتمام بالمبادئ الإنسانية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، الحق في التنمية، الحق في الأمن والسلم، الحق في التمتع ببيئة سليمة والحق في المشاركة في التمتع بمزايا استغلال الإرث الطبيعي المشترك للجنس البشري...(9) هذا من جانب أما من جانب آخر، أعتبر المجتمع المدني وخصوصا العالمي: موضة العصر، أو القطاع الثالث، أو محاولة خلقه توازنا عالميا كوريث للقطبية الثنائية السابقة.
وبذلك أعتبرها مساهمة بسيطة، ومحاولة متواضعة في أخذ هذه المبادرة والمشاركة فيها، وإثارة بعض الأسئلة العالقة ومحاولة إيجاد حلول لها.
كما أن من الأسباب التي جعلتني أبحث في الموضوع، لما أجده غير منطقي: أن كثيرا من الممارسين في حقل مؤسسات المجتمع المدني، ينقصهم الجانب النظري، وتضعف لديهم المعرفة المعنوية والفكرية فيما يمارسون.
وكذا تدوين وتجميع المبادئ والقيم النظرية والأخلاقية للمجتمع المدني، ومستوى تفاعله مع محيطه.
إضافة إلى إبراز دور منظمات المجتمع المدني في تأهيل العنصر البشري، وتحديد بعض تجلياته...
إذن: ماذا نقصد بالمجتمع المدني؟ وما هي أسسه وأصوله وتجلياته واستمرارياته؟ ماذا يقدم المجتمع المدني من موقع مسؤوليته وإمكانياته لتأهيل العنصر البشري؟ وكذا ما مدى حضوره ودوره في المساهمة في ضمان الحماية الإجتماعية للجميع يهدف من خلالها إرساء الروابط الإجتماعية المتينة والمتضامنة؟....
هذه الإشكاليات وغيرها سأحاول مناقشتها في الحلقات القادمة بحول الله، وما توفيقي إلا بالله.
الهوامش
(1)البشير تامر، التحولات الاجتماعية والمجتمع المدني في العالم العربي، حالة المغرب، ضمن التحولات الاجتماعية في العالم العربي، وقائع وتسلؤلات إشراف إدريس الكراوي ،ط:1 ، 2012، مطبعة البيضاوي المغرب، ص: 55.
(2)البشير تامر، مرجع سابق، ص: 56.
(3)مرجع سابق، ص: 54.
(4)مرجع سابق، ص: 56.
(5)مرجع سابق، ص: 53.
(6)د. أحمد أبو زيد: المعرفة وصناعة المستقبل، كتاب العربي، الناشر وزارة الإعلام - مجلة العربي، ط:1، 15 يوليوز 2005، ص: 52.
(7)د. أحمد أبو زيد : مرجع سابق، ص: 56.
(8)البشير تامر، مرجع سابق، ص: 60 و 61.
(9)فكل المواثيق والبرتوكولات... الدولية لحقوق الإنسان تنص على كل الحقوق المفترض أن يتمتع بها كل الناس بدون استثناء، وهي اللتي توجت بإعلان الحق في التنمية سنة 1986.
إرسال تعليق